الأربعاء، 11 ديسمبر 2019

أمسية المانجو





أمسية المانجو
شعر: ماري أوليفر
ترجمة: أحمد حوزة


«ذات مساءٍ
قابلت المانجو.
في البداية كان هناك أربعة منهنّ أو خمسة
في صحن.
تشبهن الصخور التي نجدها
في أنهار بنسيلفانيا
حين ينخفض منسوب المياه.
في مثل حجمها، مدورة نوعًا ما.
وطحلبية الخضرة.
لكن هذه كانت عائلة غنية، ولبِقةً أيضًا.
فبعد السلمون والسلطات،
ظهرت المانجو من أجل الجميع على أطباق زرقاء،
كل واحدة مشقوقة نصفين ومشرحة
ومقلوبة إلى خارج قشرتها، مثل زهرة برتقال،
مكعبة وطرية.
حين بدأتُ الأكل
حدثت أشياء.
فعبر كل هذه الحلاوة سمعت أصواتًا،
رجالًا ونساءً يتحدثون عن شيء ما-
بلد أخرى، وكرب.
لم تكن لغتي، لكنني فهمت ما يكفي.
أدغال، وموت. السفنُ
مغادرة المرافئ، مخازنها
ملأى بالمانجو.
أطفال، يمسحون الذباب بعيدًا
عن وجوههم الساخنة
بينما يكدحون في الحقول.
رجال، وبنادق.
اندفعت الأصوات جميعًا معًا
ولذلك وجدت طعمها، في مذاق المانجو
كحصاة جارحة وسط الطراوة.
لاحقًا، في المطبخ، رأيت البذور
مثل ألسنة منزوعة
مغروسة في القلوب العسلية.
كانوا يتحدثون سويًا-
أخبارٌ عائلية،
بضعة كلمات من أغنية
لأجل سلوة أخيرة.
كان مساءً طويلًا.
وكان فيه موسيقى.
براندي.
لقطات للصين.
تجرح الأشياء نفسها معًا كما تفعل دائمًا-
صحة، فن، تجارة. إلى أين نسافر
للاستمتاع بالجو الأفضل. من أين نشتري
أرخص الأشياء، أفضلها وأطعمها.
ثم قلنا جميعًا تحايا الوداع
وقبّلنا بعضنا، فوق العشب الأسود، مثل غرباء.»


~العنوان الأصلي: "المانجو"، شعر ماري أوليفر 1986
ت: أحمد حوزة.

الجمعة، 14 سبتمبر 2018

الحقيقة البسيطة



الحقيقة البسيطة
شعر: فيليب لافين
ترجمة: أحمد حوزة

اشتريت مقدار دولارٍ ونصف من البطاطا الحمراء الصغيرة،
أحضرتها معي إلى المنزل، وسلقتها بقشرتها
وتناولتها على العشاء مع قليل من الزبدة والملح.
ثم تمشيت عبر الحقول المجففة
على طرف المدينة. النور في منتصف يونيو
معلقٌ على جوانب خطوط الحراثة المعتمة تحت قدميّ،
وعلى سنديان الجبال في الأعالي كانت الطيور
تتجمع لقضاء الليلة، عصافير الزِرياب والمُحاكي
تتبادل الزعيق بين بعضها، بينما الحساسين كالسهام 
تندفع في قلب الضوء المغبر. والمرأة التي باعتني البطاطا
جاءت من بولنده؛ تشبه شخصية خرجت من ذاكرة طفولتي 
مرتدية سترة تلمع بالترتر ونظارات شمسية
وقفت تتغنى بجمال كل خضارها وفاكهتها المعروضة
على الطاولة المنصوبة بجانب الطريق، تلحّ علي أن أتذوق
ولو حتى الذرة الحلوة شاحبة اللون، المجلوبة بالشحانات 
-كما أقسمت المرأة- من نيو جيرسي نفسها. «كُلْ، كُلْ»، قالت المرأة،
«وإن لم تفعل سأقول أنا أنك أكلت.»
بعض الأمور -تعرفونها-
تعرفونها طوال حياتكم. أمور بسيطة للغاية وصادقة
لا بد من قولها بلا تأنق أو وزن أو قافية،
ولا بد من وضعها على الطاولة بجوار الملّاحة
بجوار كوب الماء، والضوء غيابه متجمع
في ظلال براويز الصور، لا بد وأن تكون
مجردة ومنفردة؛ ولا بد أن ترمز لنفسها.
صديقي هنري -وأنا- وصلنا لهذه [الفكرة] معًا في 1965
قبل رحيلي بعيدًا، وقبل أن يبدأ هو في قتل نفسه،
قبل أن يبدأ كلانا في خيانة حبنا. أيمكنكم تذوق 
ما أقوله لكم؟ أهو بطاطا أم بصل، رشة
ملح عادي وثراء طعم زبدة تذوب: إنه مذاق واضحٌ
يظل[ملتصقًا] بمؤخرة حلوقكم كحقيقة
لم تتفوهوا بها أبدًا لأن الوقت غير مناسب دائمًا؛
وتظل مكانها لآخر عمركم الباقي، حبيسة بحلوقكم،
مصنوعة من التراب الذي نسميه أرضًا، 
             والمعدن الذي نسميه ملحًا،
في صورة لا نملك كلمات تشبهها، [لكنكم] تعيشون عليها.

                                                                (1994)

فيليب لافين (1928-2015). 
ولد لافين بمدينة ديترويت الصناعية لوالدين من اليهود الروس المهاجرين، بدأ يعمل بمصانع السيارات منذ الرابعة عشرة، وبدأ بكتابة الشعر أثناء دراسته بالجامعة. بعد نهاية زواجه الأول، بدأ بدراسة الشعر بجامعة أيوا دون التسجيل فيها رسميًا في 1954 بكتابة أطروحة حول شعر جون كيتس، وأكمل دراسته حتى حصل على درجة ماجستير الفنون الجميلة عام 1957، وفي نفس العام حصل على زمالة جونز في الشعر من جامعة ستانفورد. عمل لافين بعدها في التدريس بأقسام اللغة الانجليزية والكتابة الابداعية بجامعات ولاية كاليفورنيا - فريزنو، وجامعة نيويورك، وجامعة برينستون، وغيرها. اشتهر لافين بكتابته عن الطبقة العاملة بديترويت، وبشعره الذي قد يتناقض في أحيان كثيرة مع المثل العليا المرتبطة بالحلم الأمريكي وبأمريكا. يبتعد لافين في قصائده مصادر الموسيقى الشعرية التقليدية ويعتمد على التوتر الناتج من ايقاع سطوره الشعرية وتكوين جملها. اختار لافين أن يصبح صوت من لا صوت لهم، الأشخاص العاديين الذين يمتهنون أعمالًا بلا أمل في حياة كريمة. القصيدة المترجمة هنا، التي تتخذ من كاليفورنيا-فريزنو مسرحًا لها، تبقى متسقة مع بقية مسيرة لافين الشعرية، فهي مثل العديد من قصائده تفاجئنا بصوت أبطال يتأملون حياتهم وكيف قادتهم خطواتهم لفخاخ قاتلة لم يسعوا إليها أو يرغبوا في صنعها أبدًا. إنها الحياة المضادة للحلم الأمريكي المزعوم. نرافق بطل القصيدة في مشهد حسي عادي -ورمادي- ويقودنا بخفة وحرفية من مطالعة أبسط المتع الحسية، إلى مواجهة الحقيقة الكامنة غير المنطوقة. يمنحها ظلًا وقوامًا وطعمًا، ويتركنا -في غياب الضوء- لنفكر كم من الوقت احتاج هنري ليقتل نفسه.

نشرت القصيدة عام 1994 في كتاب يحمل نفس العنوان: الحقيقة البسيطة، والذي حاز على جائزة البوليتزر عن فئة الشعر عام 1995. ونسمعها عبر هذا الرابط بصوت لافين نفسه.





السبت، 4 مارس 2017

في مكان ما أبدًا لم أزره




شعر: إي إي كمينغز
ترجمة: أحمد حوزة
في مكان ما أبدًا لم أزره بسعادة أبعد
من أي سعادة ممكنة -عيناكِ تمتلكان صمتهما:
في أوهن إشارة منك هنالك أشياء تطوقني،
أو لا أستطيع لمسها لشدة قربها

نظرتك الأبسط في يسرٍ ستفتحني
مع أنني قد أغلقت نفسي مثل أصابع،
بتلة بعد بتلة تفتحين دائمًا نفسي مثلما الربيع تفتح
(وتمس بمهارة -وغموض) وردتها الأولى

ولو تكون أمنيتك انغلاقي، فإني
وحياتي سننغلق في جمال بالغ –فجأة-
كحين يتخيل قلب هذه الزهرة
 الثلج بحرص في كل مكانٍ يهبط؛

لا شيء سندركه في هذا العالم يقابل
قوة هشاشتك المركزة: التي نسيجها
يخضعني أنا بلون بلدانه،
جالبةً الموت والأبدية مع كل تنفس

(أنا لا أعرف ما الذي يغلق فيك
وما الذي يفتحني؛ إلا أن شيئًا ما بداخلي يفهم
صوت عينيك أعمق من كل الورود)
لا أحد، ولا حتى المطر، يمتلك يدين بمثل هذا الصغر




***

تعليق على الترجمة
تمتع كمينغز بأسلوبه الخاص في بناء الجملة الشعرية وفي طريقة ترتيب مفرداتها في أطر غير تقليدية من العبارات والجمل. كان ذلك نتيجة تأثره بالحداثيين البارزين في عصره مثل جيرترود شتاين وعزرا باوند، وكذلك باطلاعه على الاعمال السريالية وأعمال حركة دادا الفنية في باريس. أجد هذه القصيدة ملائمة كمثال على هذه الملامح المميزة في العديد من قصائده. هنالك شيء ما في أسلوبه هذا يستدعي الترجمة على عدة مستويات؛ أولها داخل اللغة وأثناء قراءة النص الإنجليزي الذي يفاجئ القارئ بعدم اتساقه مع ما يتوقع من مفردات الجملة أن تتواجد عليه؛ وإلى جانب هذا التأثير توجد عناصر التصوير المتفرد –الناتج من خبرة كمينغز كرسام مهتم بالصورة وفعل التصوير وتعبيرهما غير العادي عن الواقع- وهو ما أثار فضول المترجم بداخلي؛ يريد المترجم الهاوي بداخلي أن يحاول تذوق نص كمينغز بعد أن يعبر إلى لغة أخرى... هذا الانتقال إلى العربية أضاف للنص إشكالية لم تكن بالوضوح ذاته في لغته الأولى. أصبح النص أمامي أكثر تفككًا –وربما بدا فيه بعض العبث- وأصبح علي الاختيار بين إنتاج ترجمة مُرضية لذائقة النظرة الأولى إلى النص وبين الإخلاص –شبه التام- لتجريبية نص كمينغز. وأظن أنني كنت أكثر ميلًا والتزامًا بالاختيار الثاني. وتبقى هناك إشكالية مفتوحة النهاية: إشكالية فعل القراءة الجهرية، الذي يساهم بالكثير في تجربة القارئ عند اختباره للنص. ربما يكون ذلك مما قصده كمينغز حين كتب بأسلوبه هذا، لكنني حين أنظر إلى نصي المترجم –الذي أنسبه لنفسي على استحياء- أجد أن اختياري الإخلاص لاسلوب كمينغز يسلبني قدرًا كبيرًا من سلطتي كمترجم؛ فكيف تضيف القراءة الجهرية للنص الذي أنتجته؟ أقرأ النص مرة فتسمعه أذناي متماسكًا متتابعًا؛ أقرأه مرة أخرى فيتصاعد إلي مليئًا بالكسور وببعض الإحباط كأنه قصيدة -وترجمة- غير منتهية... في النهاية أختار الإبقاء عليه ونشره هنا، وأرى أن تذوقي لنصوص كمينغز لم ينته بعد وربما يحتاج مني ترجمة قصيدتين أو ثلاثة بعدُ حتى تتضح التجربة... النص الأصلي مأخوذ من أعمال إدوارد إستلن كمينغز الكاملة ومتاح إلكترونيًا عبر هذاالرابط؛ أما الترجمة المنشورة فهي المسودة النهائية بعد مراجعات ثلاثة. 


الأحد، 22 يناير 2017

القصائد التي لم أكتبها



القصائد التي لم أكتبها
شعر: جون بريم                            ترجمة: أحمد حوزة

أنا مُقلُّ الانتاج بجموح، إن القصائد
التي لم أكتبها قد تصل
من هنا إلى شاطئ كاليفورنيا
 
إذا ما بسطتها جنباً إلى جنب.

وإذا ما كدستها نحو الأعلى،
فإن القصائد التي لم أكتبها
قد تتأرجح كبرج بابل
 
صامتٍ؛ تقول لاشيء

وتقول كل شيءٍ بألف لسان 
مختلفٍ. مؤثرة جداً،
مليئة بالمعاناة جدًا ومفرغَّةٌ منها،
 
مغمورة للغاية بموسيقى الصوت.

[خرساء أمام الحقيقة،]
القصائد التي لم أكتبها
كانت لتحطم قلوب 
 
كل امرأة قد تركتني يوماً ما،

تجعلهن يرمقن أزواجهن
باحتقار حاد، ويكرهن
أنفسهن، لأنهن أدرن ظهورن
 
عن جوهر ينبوع الجمال.

القصائد التي لم أكتبها
كانت لتدفع الشعراء الأخرين
ليسألوا الرب: «لماذا
تدعني أعيش؟ معدوم القيمة أنا.
أرجوك اصعقني ميتاً في الحال،
أتلف أعمالي وطهّر 
الأرض من نقائصي 
 
الشنيعة.» إن الأشجار كانت

لتحني رؤوسها أمام القصائد
التي لم اكتبها.
"
خذني،» كانت لتقول؛ «واجعل مني
صفحاتٍ لك، لربما

أحيا للأبد كأرض
منها تبزغ كلماتك.»
الرياح نفسها، التي لربما
 
كنت كتبت عنها بمنتهى البلاغة

ممجداً أنهار هوائها الناعمة 
والمتقاطعة، هدوئها المهيب
واقتحاماتها الصاخبة، وامتدادها 
كلحن طويل على الفلوت ولومها 

العطوف، [الرياح] كانت لَتهوي 
نحو القصائد التي لم أكتبها،
لتمر بها، وبالحياة 
 
التي لم أحيها، الحياة

التي أخفقت حتى في تصورها،
 
والتي تصفها تلك القصائد بمنتهى الدقة.


ـــــــــــــــــــــــ

جون بريم: شاعر أمريكي ولد عام 1960 بولاية نبراسكا، درس بجامعتي نبراسكا وكورنيل؛ عمل كمحرر مشارك لكتاب أكسفورد عن الشعر الأمريكي (2006) وظهرت قصائده في مجلات ومختارات أدبية عديدة بامتداد مسيرته المهنية. يعيش بريم الآن في مدينة بورتلاند، أوريجون؛ ويعمل في التدريس بورشة كتّاب اللايتهاوس في دينفر. نشرت هذه القصيدة ضمن مجموعة قصائد كتابه «بحر من الإيمان» الحاصل على جائزة بريتنجهام عام 2004. ويمكن قراءة نصها الأصلي عبر هذا الرابط.

الخميس، 19 يناير 2017

كيف تقرأ طفلتي؟





كتبت: ريفكا جالتشين
ترجمة: أحمد حوزة


إحدى القصص المفضلة تحكي عن عائلة انتقلت لتعيش في منارة، عن الطيور التي تلقى حتفها مصطدمة بمصباح المنارة، وعن عوامة يتضح أنها لغم عائم. وبامتداد خط حكي سوء إدارة المرافق العامة بالإجمال، يمتد خط حكاية إخفاق الأب المستمر بدلًا من تحقيق هدفه من الانتقال إلى المنارة: أن يكتب رواية البحر المدهشة. إنها حكاية مصورة ذات نبرة فكاهية في ألوان تشبه مزيج حلوى الطوفي؛ كما أنها أصبحت الآن أكثر ما تفضل طفلتي قراءته، طفلتي التي ما زالت تتعلم المشي. وعندما تضعها من يدها تلتقط كتابًا مجسمًا عن بحار شاب سوف يأكله زملاؤه على السفينة في نهاية المطاف. هي تحب أيضًا حكاية التراجيديا التوجيهية «أيجب عليّ مشاركة مثلجاتي؟» التي يستطرد بطلها بكل تأنٍ في استعراض الدروس الأخلاقية والذوقية التي تعنيها المشاركة، وبينما يفعل ذلك تذوب مثلجاته الحبيبة دون انتباه منه. اقرأ كتب الأطفال مرات كافية وستبدأ في رؤيتها مثل شكسبير. من هو كورديوري إن لم يكن ميراندا حديثة، ملأى بالتساؤل؟ ما الذي يتعلمه الفتى في «يوم مثلج» غير أن عالمنا ما هو إلا استعراض تافه للمظاهر؟ قط دكتور سوس هو فالستاف شكسبير، وماكس -ذاك الشيء الجامح في البرية- يحنّ –مثل حنين الملك لير- لمملكة المحبة الحقيقية التي أخفق في التعرف عليها.

أو ليس كذلك. فأنا وطفلتي لا نقرأ كتبها بنفس الطريقة بالضبط. «أين لاكلي؟» تسألني. فإذا ما كنت أختبر كتبها غالبًا كملاحم هزلية، فإنها ترى اللغة شعرًا. طفلتي لا تقرأ من أجل ما سيحدث تاليًا، هذا ما أعتقده، حتى بعدما أخذت تحاكي إيقاع معلمة الروضة وهي تقول «ماذا سيحدث يا تُرى» قبل أن تقلب الصفحة. الذي سيحدث تاليًا غالبًا ما يكون مجرد حيوان آخر في حديقة الحيوانات. بعض الكتب تحتوي حبكة، لكنها تقرأها كمنظر طبيعي أبدي. ما يعنيه هذا هو أنه لا شيء يحدث، هي تقرأ من أجل هذا اللا شيء، كما أعتقد. لا أعرف حقًا ما يدور بخاطر طفلتي، وهي أيضًا، لا تعرف. ليلة الأمس في نومها نادت «لا أريد بالونة!» فما الذي سيحدث يا تُرى؟

«تذكرين عندما كنا نقرأ ذاك الكتاب؟» سألتني طفلتي بالأمس. كانت تتحدث عن «موبي-ديك». «موبي-ديك» للأطفال –إنه «موبي-ديك» في كلماتٍ عشرة. في الواقع، أظن أنه الكتاب الذي كانت تتحدث عنه. فمن الصعب تحديد إذا ما كانت ببساطة تقلد شيئًا نسيت أنا أنني أخبرتها به. تتذكرين؟ لأي وقت مضى –وهي بنت العامين والنصف- قد تشعر بالحنين؟

تخبرني ذاكرتي عن بيت طفولتي أن مصدر مواد القراءة الأساسي في ذلك الحين كان الاقتباسات الملهمة المطبوعة على عبوات شاي سيليستيال سيزوننج. سبعة كلمات من إيميلي ديكنسون. إثنا عشرة كلمة من رالف والدو إيمرسون. أكانت الكتب قليلة جدًا لهذا الحد؟ أسأل أمي. فتقول نعم، كتبٌ قليلة للغاية: «لم أقرأ لك غير الكتب التي أظنها غير مملة. كان من الصعب العثور على مثل هذه الكتب. أحد الكتب التي أتذكرها الآن كان "لا مكان للخباز".» أنا أيضًا أتذكره! يحكي الكتاب عن خباز يملأ بيته بالحيوانات الأليفة حتى لا يتبقى بالبيت مكان يكفي لينام فيه بالنهاية. أتذكر أيضًا حكاية أخبرني بها أبي: لقد عملت أمي لبعض الوقت في وظيفة بدوامٍ ليلي، كانت تبيع فيها ألواح الطاقة الشمسية –وليس لدي أدنى فكرة لما قد يبيع أحدهم ألواح الطاقة الشمسية في المساء- ولذا كانت تغفو بالنهار في خزانة بالبيت، على أمل أن تنجح في النوم دون أن نزعجها أنا وأخي.

وجود طفل في حياتك يشبه إعادة قراءة طفولتك الخاصة. لطالما كنت متعلقة بقصة أن والديّ كلاهما ما كانا يباليان بثقافة الأطفال –وهو ما أعجبني بالأساس: كانا صريحين في تململهما من حفلات عزف البيانو وحفلات التخرج وكتب الأطفال. لكن الحكاية التي تخبرنا بها هذه الحكاية قد تغيّرت مؤخرًا بالنسبة لي. أصبحت مدركة لأن اللامبالاة بثقافة الطفل لما تكن لا مبالاة بالأطفال أنفسهم بأي حال من الأحوال.

إحدى تصورات ما يمكن لأدب الطفل أن يكونه، هو أن يكون أيًا ما يقرأه الطفل. وعلى هذا الأساس أكون أنا قد قرأت كثيرًا كطفلة. وأدرك أنني أربط تقريبًا أغلب ما قرأته بأمي. ملصقات «باناكول» الغامضة على التفاحات التي قشرتها من أجلي وعلبة رويال دانسك الملأى بكوكيز الزبدة الدنماركية ورزم مخاطبات إد ماكماهون –المفوض لي بتولي أمرها- والتي لربما تصنع لنا الملايين وأسماء والديّ الغريبة على الشيكات التي كان في خلفيتها سلاسل جبلية شاحبة؛ سلاسل جبلية دُعيت للاختيار من بينها بنفسي، من بين صفحة ملأى بالاختيارات المتعددة الكثيرة. هذه التجربة في أغلبها ما هي إلا صخبٌ من الكربوهيدرات والبريد غير المرغوب فيه، لكنّ كل هذه الأصوات كانت مسكونة للغاية –وما زالت مسكونة للغاية- بشعورٍ بالرخاء والمغزى والضياء. ما زال قلبي يطير حين يقع بصري على لغة تستدعي ذكرى أغلفة كتب أمي الدراسية: بيزك بيزك فورتران.

كتاب طفلتي المفضل، حكاية بيت المنارة، تقع أحداثه بين أفراد عائلة مومين شاحبي اللون؛ إنها –من جهة- حكاية عن فنلندا ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها أيضًا حكاية من يقع في حب البيت الذي كان لديه طول العمر، البيت الذي بدا من قبلُ غير كافٍ أبدًا. يتخلى بابا مومين عن رواية البحر المدهشة التي أراد أن يكتبها. ويكتبُ –بفخر- «كم أفتقد شُرفتي أنا الآمنة.»



______
نشر النص الأصلي بمجلة ذا نيويوركر؛ عدد 6 يونيو 2016
ومنشورة إلكترونيًا عبر هذا الرابط